Sunday, May 30, 2010

تريانون

إنها تلك اللمحة الضبابية الساحرة .. هي ما تجذبني إلى هذا المكان.
على كرسي مواجه للنافذة الكبيرة بت أراقب الميدان العامر دائماً بالناس والعربات في آن واحد، محال أن تجده خالياً ، حتى في أيام الشتاء يتكاثف فيه الناس كما تتكاثف حبات المطر على الزجاج ( الفيميه ) الأسود ذو الطابع الإنجليزي والذي يغطي كل نوافذ تريانون.
بمجرد دخولي ، أجد نفسي مجبراً على التفكير ، في أي شئ وفي كل شئ ، ربما هي تعويذه سحرية رماها المالك اليوناني للمكان قبل أن يرحل ، غريب أمرهم الأغريق يصرون دائماً على استنفار ذلك الكائن الخامد بجمجمتك وكأنهم يتلذذون بتعذيبك ، فكر كما تحب، لا مدينة فاضلة بعد يوتوبيا أفلاطون.
ومن يشغله مصير العالم بعد انتحار الفلاسفة وتعري الفلسفة ، مشاريعي أكبر من ذلك بكثير ، هناك فتاة تنظر إلي من طاولة غير بعيدة ،لم يخطئ فرويد حينما قال أن الجنس أصل كل شئ.
إحداهن تقترب من النافذة في عجل لتعيد خصلات شعرها المتناثر إلى مكانها ،حمالّة صدرها من النوع الرخيص تكاد تنطق بذلك دعاماته النافرة من تحت ثيابها ،لا تعلم أني أراها من الجانب الأخر لذلك لا تتكلف تصنع الإبتسامة ، أحب الناس حين يتصرفون على طبيعتهم ، الإنسان لم يولد غازياً العالم بضحكاته .. الإنسان يولد باكياْ .
تلوّن الجو برائحة الشيكولاتة الساخنة التي أحضرتها النادلة ذات (الميني جيب ) منذ قليل ، تتغير الموسيقى لتأتي موسيقى فيلم (العرَّاب) حاملة معها ذكريات أقنع نفسي دائماً بأني نسيتها ، أتفنن في وضع السكر ، أتذكر إشارتها الناعمة لي بأنه مُحلى بعض الشئ فلا داعي لكل هذا الكم كي لا " تجزع نفسي" .
من قتل ناجي العلي ، ولماذا قتلوه قبل أن يكشف لي عن وجه حنظلة ، هل خافوا إذا ظهر وجهه أن يكون له لسان ويسأل عن حقوقه ، كان يجب ألا يخافوا ، لو استدار لوجدوا معالمه مطموسة بذل الخيبة ، تُرى ماذا قصد ب (لاجئون لكننا عائدون)  ، وكأنه لازال هناك ما يمكننا أن نرجع إليه ، أرتشف ما أمامي قبل أن يبرد ، قضية عمرها ستون عاماً يمكنها أن تنتظر لحظات ، أحدهم ينادي النادل طالباً الحساب ، لو أنه للسماء ندّال لمُسخنا – منذ زمن – قردة وخنازير.
أتأمل من جديد قائمة المشروبات الهرمية الشكل أمامي ، أحمد الله على أني لا أحب القهوة ، كنت لأحتار أي تلك الأسماء يناسبني اليوم ، تفتح سيدة بملامح أوروبية الباب الزجاجي لتجلس أمامي مباشرة ، تشعل سيجارتها وتطلب كأساً من الويسكي ، مثلي هي تراقب المارة في تلذذ ، لابد أن لها قصتها الخاصة .. كلٌ منا له قصته الخاصة ، لاحَظت أني أراقبها فباغتتني بنظره انصرفتُ على أثرها لمراقبة الثريا المدلاة من السقف المزخرف ، أتذكر حلماً قديماً باقتناء بطريق في منزلي المرتقب ، أخفي ضحكتي كما تعودت إخفاء كل شئ ، لو أمكننا إطالة طفولتنا لما عرفنا أبداً معنى الألم.
الطريق بدا مكتظاً عن السابق ، أعبره بعيني لأتأمل جدارية تحوي آلات موسيقية وسيدة ترتدي قرط كبير ، ووجه سيد درويش الحزين يناجيني كالعادة ، زوروني كل سنة مرة ، لو يعلم أني أزوره لأبحث عن نفسي الضائعة في نظراتي البالية إليه ، حنطور يقطع الصورة التي سرعان ما تتشكل مرة أخرى ، ألم يكن سيد درويش نصيراً للمحرومين ، لماذا يبدو وجهه إذاُ ممتلأً أكثر من اللازم .

إسلام المصري
الإسكندرية
30/5/2010

1 comment:

  1. عجبتنى جدا يا اسلام
    عجبنى غموضها وبساطتها فى نفس الوقت
    وصفت الاحساس دا بطريقه سلسه وجميله جدا
    احساسك فى الكلمات راائع

    لا بجد عجبتنى عجبتنى يعنى
    تسلم ايدك يا فنان

    ReplyDelete